المسح في اللغة هو: إمرار الشيء على الشيء بسطًا. "معجم مقاييس اللغة" لابن فارس (5/ 322، مادة: مسح، ط. دار الفكر)، يقال: مسح على الشيء بالماء أو الدهن: أمرَّ يده عليه به.
والدعاء مقربة عظيمة، يُظهر حقيقة التوجه واللجوء لله سبحانه وتعالى، وفيه إعلان العبد عن فقره وضعفه، والاعتراف بقوة الله وقدرته على كل شيء، وقد سماه النبي صلى الله عليه وآله وسلم العبادة؛ فقد أخرج أبو داود في "سننه" والترمذي وصححه وأحمد وابن حبان والحاكم وصححه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ»، ثم قرأ: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60].
وقد أمر الله تعالى بالدعاء وحث عليه؛ فقال تعالى: ﴿وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ﴾ [النساء: 32]، وقال: ﴿فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ [غافر: 14]، وقال: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا﴾ [الأعراف: 55-56]، وقد حذرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من عدم الدعاء والسؤال لله عز وجل؛ فقد أخرج البخاري في "الأدب المفرد" والترمذي، ونحوه في "المستدرك" للحاكم وصحح إسناده، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: « مَنْ لَمْ يَسْأَلِ اللهَ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ».
والله عز وجل لا يَرُدُّ عبده إذا رفع العبد يديه بذُلٍّ وإلحاح وتضرع دون أن يقضي له حاجته، ولقد بارك الله لرجل في حاجة أَكْثَرَ الدعاء فيها، أعطيها أو منعها؛ فقد أخرج أحمد والحاكم وصححه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي عليه أفضل الصلاة والسلام: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو اللهَ بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا مَأْثَمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ دَعْوَتَهُ، أَوْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مِثْلَهَا، أَوْ يَدَّخِرَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلَهَا».
وقد نص الأئمة والفقهاء على استحباب مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء؛ قيل: وكأن المناسبة أنه تعالى لما كان لا يردهما صفرًا فكأن الرحمة أصابتهما فناسب إفاضة ذلك على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء وأحقها بالتكريم. "سبل السلام" للصنعاني (2/ 709، ط. دار الحديث).
جاء في "حاشية الشرنبلالي على الدرر الحكام" من كتب الحنفية (1/ 80، ط. دار إحياء التراث العربي) في (باب صفة الصلاة) في ذكر الأدعية والأوراد التي وردت السنَّة بها بعد الصلاة لكل مصلٍّ، ويستحب للمصلي الإتيان بها: [ثم يختم بقوله تعالى: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ﴾؛ لقول علي رضي الله عنه: "من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ﴾، ويمسح يديه ووجهه في آخره" لقول ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا دعوت الله، فادعُ بباطن كفيك، ولا تدعُ بظهورهما، فإذا فرغت فامسح بهما وجهك»] اهـ.
وقال العلامة النفراوي في "الفواكه الدواني" (2/ 335، ط. دار الفكر) من كتب المالكية: [ويستحب أن يمسح وجهه بيديه عقبه -أي: الدعاء- كما كان يفعله عليه الصلاة والسلام] اهـ.
وقد ذكر الإمام النووي من الشافعية في "المجموع" (4/ 487، ط. دار الفكر) في (باب الأذكار المستحبة) أن من جملة آداب الدعاء مسح الوجه بعد الدعاء؛ فقال: [ومن آداب الدعاء كونه في الأوقات والأماكن والأحوال الشريفة واستقبال القبلة ورفع يديه ومسح وجهه بعد فراغه وخفض الصوت بين الجهر والمخافتة] اهـ.
وجزم الإمام النووي في التحقيق أنه مندوب؛ كما نقله عنه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (1/ 160، ط. دار الكتاب الإسلامي)، والخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (1/ 370، ط. دار الكتب العلمية).
وقال العلامة البهوتي من الحنابلة: (ثم يمسح وجهه بيديه هنا) أي: عقب القنوت (وخارج الصلاة) إذا دعا. "شرح منتهى الإرادات" (1/ 241، ط. دار الكتب العلمية)، و"الإنصاف" (2/ 173 ط. دار إحياء التراث العربي)، و"كشاف القناع" (1/ 420، ط. دار إحياء التراث العربي).
والدليل على ذلك ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يمسح وجهه بيديه بعد الدعاء؛ فقد أخرج الترمذي والحاكم عن عمر رضي الله تعالى عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا مد يديه في الدعاء لم يردهما حتى يمسح بهما وجهه".
قال الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام" (ص: 464، ط. دار الفلق - الرياض): [أخرجه الترمذي، له شواهد منها حديث ابن عباس عند أبي داود، وغيره، ومجموعها يقضي بأنه حديث حسن].
قال الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 709، ط. دار الحديث): [فيه دليل على مشروعية مسح الوجه باليدين بعد الفراغ من الدعاء] اهـ.
ويستدل أيضًا بما أخرجه أبو داود وابن ماجه والحاكم والبيهقي في الكبرى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «سَلُوا اللهَ بِبُطُونِ أَكُفِّكُمْ، وَلَا تَسْأَلُوهُ بِظُهُورِهَا، فَإِذَا فَرَغْتُمْ، فَامْسَحُوا بِهَا وُجُوهَكُمْ».
ونقل الإمام السيوطي عن شيخ الإسلام أبي الفضل بن حجر في "أماليه" قوله في الحديث: هذا حديث حسن. "فض الوعاء" للسيوطي (ص: 74، ط. مكتبة المنار- الأردن).
وجاء في "سنن أبي داود" و"مسند أحمد" عن يزيد بن سعيد بن ثمامة رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا دعا فرفع يديه مسح وجهه بيديه".
ومما روي عن الصحابة رضي الله عنهم في مسح الوجه باليدين بعد رفعهما للدعاء: ما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1/ 214) في (باب رفع الأيدي في الدعاء) من فعل ابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم في مسح الوجه باليدين بعد الدعاء؛ فقال: حدثنا إبراهيم بن المنذر قال: حدثنا محمد بن فليح قال: أخبرني أبي عن أبي نعيم -وهو وهب- قال: "رأيت ابن عمر وابن الزبير يدعوان يديران بالراحتين على الوجه".
وقد نقل الإمام السيوطي في "فض الوعاء" (ص: 101) عن الحسن البصري فعله لمسح الوجه باليدين بعد الدعاء: [قال الفريابي: حدثنا إسحاق بن راهويه، أخبرنا المعتمر بن سليمان قال: رأيت أبا كعب -صاحب الحرير- يدعو رافعا يديه، فإذا فرغ مسح بهما وجهه. فقلت له: من رأيت يفعل هذا؟ قال: الحسن بن أبي الحسن. إسناده حسن] اهـ.
أما مسح الوجه باليدين بعد الدعاء بعد الفراغ من القنوت في الصلاة فهو وجه عند الشافعية قال به القاضي أبو الطيب، والشيخ أبو محمد الجويني، وابن الصباغ، والمتولي، والغزالي، والعمراني صاحب "البيان". "المجموع" للإمام النووي (3/ 500-501)، وهو المعتمد من مذهب الإمام أحمد كما سبق نقله عن العلامة البهوتي كما مر.
وبناءً على ما سبق فإن مسح الوجه باليدين بعد الدعاء جائزٌ، ولا حرج فيه، بل هو من جملة آداب الدعاء ومستحباته التي ذكرها العلماء في كتبهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.