يقوم بعض الناس من غير المسلمين بالمشي خلف جنازة المسلم إلى أن يدفن، ويقف مع الناس عند قبره إلى أن ينصرفوا فينصرف معهم، وهذا جائز لا حرمة فيه، والدليل على ذلك قول الله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، وليس من القسط أو البر أن نمنع أحدًا من غير المسلمين أن يشيع قريبًا أو صديقًا له مسلمًا، كما أنه لم يأت ما يخصص هذا العدل الذي دعت إليه الآية.
قال العلامة القاسمي في تفسيره "محاسن التأويل" (9/ 207، ط. دار الكتب العلمية) عند الكلام على هذه الآية: [أي لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من أهل مكة، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم، وتقسطوا إليهم، أي تفضوا إليهم بالبرّ، وهو: الإحسان، والقسط، وهو: العدل. فهذا القدر من الموالاة غير منهي عنه، بل مأمور به في حقهم.
والخطاب وإن يكن في مشركي مكة، إلا أن العبرة بعموم لفظه، وقد حاول بعض المفسرين تخصيصه، فردّ ذلك الإمام ابن جرير بقوله: والصواب قول من قال: عنى بقوله تعالى: ﴿لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّين﴾ من جميع أصناف الملل والأديان ﴿أن تبروهم﴾ وتصلوهم ﴿وتقسطوا إليهم﴾؛ فإن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله: ﴿الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُم﴾ جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ؛ لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب، غير محرم ولا منهي عنه، إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب، على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكُراع أو سلاح، وقد بين صحة ما قلناه الخبر في قصة أسماء رضي الله عنها وأمها] اهـ.
كما أن هذا التشييع قد يكون ناتجًا عن حسن سيرة المتوفى وأخلاقه التي تدعو غير المسلم أن يحزن على فقد هذا الصالح الذي ترجى بركته، وقد حدث هذا في تاريخ المسلمين ولم ينكر؛ فقد جاء في "تاريخ الإسلام" للحافظ الذهبي (8/ 545، ط. دار الكتاب العربي) أن عباد بن العوام شهد جنازة منصور بن زاذان قال: [فرأيت النصارى على حدة، والمجوس على حدة، واليهود على حدة، وقد أخذ خالي بيدي من كثرة الزحام. قال يزيد بن هارون: توفي سنة إحدى وثلاثين ومائة] اهـ.
وجاء في "تاريخ دمشق" للحافظ ابن عساكر (20/ 81، ط. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع): [وقال سالم بن المنذر: خرجنا في جنازة الأوزاعي أربعة أمم اليهود والنصارى والقبط كلهم على ناحية] اهـ.
وفيه أيضًا (35/ 103): [قال عبد العزيز الكتاني: توفي شيخنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم بن معروف بن أبي نصر رحمه الله يوم الأربعاء الثاني من جمادى الآخرة بعد الظهر من سنة عشرين وأربعمائة ودفن يوم الخميس بعد الظهر ولم أر جنازة كانت أعظم منها كان بين يديه جماعة من أصحاب الحديث يهللون ويكبرون ويظهرون السنة، وحضر جنازته جميع أهل البلد حتى اليهود والنصارى. ولم ألق شيخًا مثله زهدًا وورعًا وعبادة ورئاسة، وكان ثقة عدلًا مأمونًا رضًا، كان يلقب بأبي محمد بن أبي نصر العفيف] اهـ.
ومما يستدل به أيضًا في هذا المقام تجويز طائفة من أهل العلم تغسيل غير المسلم للمسلم الميت إذا فُقد جنسه، فإن كان فعل الغسل الذي هو في أصله عبادة ولا تكون الصلاة إلا بعده، فالتشييع أهون من ذلك.
قَالَ مَكْحُولٌ فِي امْرَأَةٍ تُوُفِّيَتْ فِي سَفَرٍ، وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ وَنِسَاءٌ نَصَارَى: "يُغَسِّلُهَا النِّسَاءُ. وَقَالَ سُفْيَانُ فِي رَجُلٍ مَاتَ مَعَ نِسَاءٍ لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُل، قَالَ: إنْ وَجَدُوا نَصْرَانِيًّا أَوْ مَجُوسِيًّا فَلَا بَأْسَ إذَا تَوَضَّأَ أَنْ يُغَسِّلَهُ، وَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ النِّسَاءُ. وَغَسَّلَتْ امْرَأَة عَلْقَمَةَ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ". ينظر: "المغني" (2/ 203، ط. دار إحياء التراث العربي).
وقال العلامة السرخسي في "المبسوط" (10/ 161، ط. دار المعرفة): [وَإِنْ مَاتَ رَجُلٌ مَعَ نِسَاءٍ لَيْسَ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ يَمَّمْنَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا، إلَّا أَنَّ مَنْ تُيَمِّمُهُ إذَا كَانَتْ حُرَّةً تُيَمِّمُهُ بخرقة تَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهَا ... فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ كَافِرٌ عَلَّمْنَهُ الْغُسْلَ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ الرِّجَالِ أَمَةٌ كَافِرَةٌ عَلَّمُوهَا الْغُسْلَ لِتُغَسِّلَهَا؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ وَالْمُخَالَفَةِ، إلَّا أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَعْرِفُ سُنَّةَ غُسْلِ الْمَوْتَى، فَيُعَلَّمُ ذَلِكَ] اهـ.
وقال الإمام النووي في "المجموع" (5/ 120، ط. المنيرية): [إذَا مَاتَتْ ذِمِّيَّةٌ جَازَ لِزَوْجِهَا الْمُسْلِمِ غُسْلُهَا، وَكَذَا لِسَيِّدِهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مُزَوَّجَةً وَلَا مُعْتَدَّةً وَلَا مُسْتَبْرَأَةً، فَإِنْ مَاتَ زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ فَغَسَّلَتْهُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَفِي صِحَّتِهِ طَرِيقَانِ: الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَجُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ: صِحَّتُهُ] اهـ.
وبنحو ما قلنا صرحت طائفة من أهل العلم:
فعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنْ رَجُلٍ مَاتَ أَبُوهُ نَصْرَانِيًّا، قَالَ: يَشْهَدُهُ وَيَدْفِنُهُ. قَالَ الْخَلَّالُ: كَأَنَّ أَبَا عَبْدِ اللهِ -يعني: الإمام أحمد- لَمْ يُعْجِبْهُ ذَلِكَ، ثُمَّ رَوَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، وَاحْتَجَّ بِالْأَحَادِيثِ يَعْنِي أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ، وَاللهُ أَعْلَمُ. ينظر: "أحكام أهل الذمة" للإمام ابن القيم (1/ 437، ط. رمادي للنشر، الدمام).
وقَالَ الإمامان ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ -كما في "التاج والإكليل" للعلامة المواق (3/ 78، ط. دار الكتب العلمية)-: [إنْ مَاتَ الِابْنُ الْمُسْلِمُ فَلَا يُوَكَّلُ إلَى أَبِيهِ الْكَافِرِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ مِنْ غُسْلٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَمَّا سَيْرُهُ مَعَهُ وَدُعَاؤُهُ لَهُ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ] اهـ.
وبناءً على ما سبق ذكره وتقريره: فإنه يجوز للمسلمين ترك غير المسلم ليشارك في المشي خلف جنازة أحد المسلمين دون حرج في ذلك.
والله سبحانه وتعالى أعلم.