الشبهة وأنواعها

تاريخ الفتوى:14 يناير 2013 م

بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بِدِينٍ ارتضاه ختام الأديان، ولم يتركنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا على المحجّة البيضاء بعد أن بيَّن الحلال والحرام، وأمرنا بالتحرّي في معرفة ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المرْسَلِينَ، فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذي بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ» رواه مسلم.
وعليه: فمعرفة الحلال والحرام من الأمور المطلوبة شرعًا حتى يستقيم حال العبد، ومعرفة ذلك سهلة ميسرة؛ لأنه بيِّنٌ لا خفاء فيه من حيث الجملة، وهو ما يشير إليه حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى المشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ» متفق عليه.
فيوضح الحديث أن الحلال والحرام ظاهران بأدلتهما، لكن المُشْكِل على كثير من الناس ما هو متوسط بينهما، فقد اقتضت حكمة الله أن تكون هناك بيِّنات وشبهات، وأن لا تكون البيِّنات واضحة كلها، ولا الشبهات غالبة؛ يقول الإمام الشاطبي في "الموافقات" (3/ 86، ط. دار المعرفة): [التشابه قد علم أنه واقع في الشرعيات، لكن النظر في مقدار الواقع منه، هل هو قليل أم كثير؟ والثابت من ذلك القلة لا الكثرة] اهـ.
والجذر اللغوي للفظة شُبْهَة: (ش ب ه)، والشين والباء والهاء أصل واحد يدل على معان متعددة، منها:
- المِثْل، يقال: أَشْبَهَ الشيءُ الشيءَ: مَاثَلَهُ.
- ومنها: المُشَابَهَةُ، يقال: فيه شُبْهَة منه، أي: شَبَهٌ؛ ومنه قوله تعالى: ﴿وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: 25]، أي: يُشْبِهُ بعضُه بعضًا.
- ومنها: الالتباس، يقال: اشْتَبَهَتِ الأمور وتَشَابَهَتْ: التبست فلم تتميز ولم تظهر.
- ومنها: الإشكال، ومنه قولك: شبَّه الشيء إذا أشكل.
- ومنها: الاختلاط، وتقول: شَبَّهت عليَّ يا فلانُ، إذا خلَّط عليك، واشْتَبَهَ الأمر إذا اختلط. انظر: "لسان العرب" (13/ 503، مادة (ش ب هـ)، ط. دار صادر)، و"تاج العروس" (36/ 411، فصل الشين من باب الهاء، ط. المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت)، و"المصباح المنير" (ص: 303 وما بعدها، مادة (ش ب هـ)، ط. المكتبة العلمية)، و"تهذيب اللغة" (6/ 92، ط. المؤسسة المصرية للتأليف والأنباء والنشر)، و"الحدود الأنيقة" للشيخ زكريا الأنصاري (ص: 77، ط. دار الفكر)، و"كشاف اصطلاحات الفنون" للعلامة التهانوي (1/ 1005، ط. مكتبة لبنان).
وقد تنوعت تعريفات العلماء للشبهة وهي في مجملها يمكن ردها إلى المعاني اللغوية السابقة، فمن هذه التعريفات:
- أنها: ما لم يتيقن كونه حرامًا أو حلالًا. انظر: "أنيس الفقهاء" للإمام القونوي (ص: 281، ط. دار الوفاء، جدة)، و"الحدود الأنيقة" (ص: 77).
- وقيل: ما جهل تحليله على الحقيقة وتحريمه على الحقيقة. انظر: "المواهب السنية شرح الفرائد البهية" للإمام الجَرْهَزي (1/ 134، ط. دار البشائر).
وهذان التعريفان هو ما يدل عليهما حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما السابق: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ..»، وفي رواية الترمذي: «لَا يَدْرِي كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ أَمِنَ الْحَلَالِ هِيَ أَمْ مِنَ الْحَرَامِ» فسُمِّيَ ما جهل حقيقةُ حكمِه شبهة.
-وقيل: ما اشتبه حكمه بالاختلاف في إباحته. انظر: "الحاوي" للإمام الماوردي (13/ 467).
-وقيل: احتمال حرمة يستند إلى دليل ويعارض أصل الحل. انظر: "مفتاح السعادة" للإمام طاش كُبْرِي زاده (3/ 223، ط. دار الكتب العلمية).
وهذا المعنى الاصطلاحي للشبهة يدخل فيه كل موضع أو صورة اشتبه الحل والحرمة فيها، وهذا المعنى عامٌّ، وقد وجد تعريف للشبهة لكنه خاص بالحدود وما في معناها كالكفارات، حيث رتَّب الفقهاء على وجود مثل هذه الشبهة في باب الحدود والكفارات أحكامًا خاصة؛ كإسقاط الحد، فمن ذلك ما عرَّفها به الحنفية أنها: اسم لما يُشبِه الثابت وليس بثابت. انظر: "بدائع الصنائع" (7/ 36، ط. دار الكتب العلمية)، و"العناية" (5/ 260، ط. دار الفكر)، و"الدر المختار" (4/ 18، ط. دار الكتب العلمية).
ومعناه: أن يقترن سبب الحكم بأمر يشبه الثابت وليس ثابتًا في حقيقة الأمر، فالعقد على مَن لا يحلّ له نكاحها ووطؤها حرامٌ ولا حدّ عليه عند الإمام أبي حنيفة وإن علِم بالحرمةِ؛ لأن وجود العقد يفيد حلّ الوطء، إلا أن الحرمةَ من حيث كون المعقود عليها لا تصلح محلًّا للعقد، فإذا لم يبق العقد صحيحًا حقيقة فتبقى صورته التي تشبه الصحيح دارئة للحد.
فما وجد من لفظة الشبهة خارج نطاق دائرة الحدود أو ما في معناها فإنه يَصْدُق عليه التعريف العام الاصطلاحي، أو يكون من قبيل الاستعمال اللغوي.
والاشتباه له أسباب؛ فقد يكون لانعدامِ الدليل أو لغموضِهِ وخفائِهِ أو لغير ذلك؛ بحيث لا يعلمه إلا القليل، فالمفهوم من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ»، أن القليلَ يعلمه، والمراد بالقليلِ: أهلُ الاجتهاد على تفاوتٍ في مراتبهم، فالغامض في حق غيرهم واضح لهم، على أن سبب الاشتباه قد يكون تعارض الأدلة وعدم المرجِّحات، أو عدم الدليلِ أصلًا، أو اختلاف العلماء كما سيأتي، لكن ما نريد أن نؤكدَه هو أن القاعدة العامة في التعامل مع الشبهات -والتي أسسها حديث النعمان رضي الله عنه السابق- أنه ينبغي للعبد أن يدع ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، وهي مرتبة الورع، وفي ذلك تفصيل؛ [فما كان حلالًا بوصفه وسببه فهو حلال بيِّن، وما كان حرامًا بوصفه وسببه فهو حرام بيِّن، وما كان متفقًا على وصفه القائم به مختلفًا في سببه الخارج عنه، أو كان متفقًا على سببه الخارج عنه مختلفًا في وصفه القائم به، فإنك تنظر إلى مأخذ تحليله وتحريمه بالنظر إلى صفته القائمة به، وإلى سببه الخارج عنه، فإن كانت أدلتهما متفاوتة، فما رَجَحَ دليل تحريمه كان حرامًا، وما رَجَحَ دليل تحليله كان حلالًا، وإن تقاربت أدلته كان مشتبهًا وكان اجتنابه من ترك الشبهات، فإنه أشبه المحلَّل من جهة قيام دليل تحليله، وأشبه المحرَّم من جهة قيام دليل تحريمه، فمن ترك مثل هذا فقد استبرأ لدينه؛ لأنه نزَّهه من الوقوع في الحرام، واستبرأ لعرضه لأنه نزَّه عرضه من أن يقال: فلان يأكل الحرام. وإذا تقاربت الأدلة فما كان أقرب إلى أدلة التحريم تأكد اجتنابه واشتدت كراهته، وما كان أقرب إلى أدلة التحليل خف الورع في اجتنابه، وإن كافأ دليلُ التحليل دليلَ التحريم حرم الإقدام ولم يتخير على الأصح] اهـ. انظر: "القواعد الكبرى" للإمام العز بن عبد السلام (2/ 109-110، ط. دار القلم).
وتجدرُ الإشارة إلى أن وجود المسائل المشتبهة كان له فضل في التأصيل أو التنظير لبعض القواعد؛ كقاعدة الاحتياط مثلًا: ذلك أن الوقوع في الحرام يوجب معرفة العمل عند وجود مثل تلك المسائل، فإنه من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ولذا تجد أقوالًا للفقهاء فيمن اشتبه عليه الحلال والحرام، أو شك في حِلِّ عين واحدة من حرمتها، فالاحتياط لا يكون إلا إذا وجدت المشبهات، والمشبهات لا يُتخلص منها غالبًا إلا به.
والناظرُ في كتب المذاهب يجد أن أربابها لم يُعْنَوا بدرجة واحدة بإيراد تقسيم للشبهة، فالحنفية والشافعية هم أكثر المذاهب اهتمامًا بذكر تقسيم لها، حيث تناقل ذلك في عبارات فقهائهم، في حين نجد أن المالكية والحنابلة وإن أورد بعضهم تقسيمًا لها إلا أن أكثرهم يكتفون بمجرد الإشارة إلى وجود شبهة في المسألة، وبيَّنوا أثر وجودها على الحكم.
وقد قسَّم السادة الحنفية الشبهة إلى ثلاثة أقسام:
-الأول: شبهة فعل: وتسمى شبهة اشتباه وشبهة المشابهة، ومعناها أن يظن غيرَ دليل الحِلِّ دليلًا، فتسمى شبهة فعل أي الشبهة في الفعل الذي هو الوطء مثلًا، حيث كان مما قد يشتبه عليه حرمته، وتسمى شبهة اشتباه؛ حيث إنها تتحقق في حقّ من اشتبه عليه فقط فمن وطئ المطلَّقَة ثلاثًا وهي في العدة ثم قال: ظننت أنه يحلّ لي فلا يُحَدُّ، فتتحقق هذه الشبهة حيث لا دليل يفيد الحِلَّ، أي أن المسألة المشتبه فيها ليست محلّ خلاف، بل اشتبه عليه غير الدليل فظنه دليلًا، فالشبهة منوطة بالظن، وإلا فلا شبهة أصلًا لفرض أن لا دليل أصلًا لتثبت الشبهة في نفس الأمر.
وعليه: فالضابط في سقوط الحدّ بهذه الشبهة شيئان:
الأول: أن يكون الموضع موضعَ اشتباه، فمن وطئ أجنبية حُدَّ وإن ادَّعَى ظن أنها تحلّ له.
والثاني: ادعاء الظن لا مجرد حصوله، والمعنى: أنه إن قال: علمتُ أن هذا الفعل حرام حُدَّ، وإذا لم يَدَّعِ الظنَّ يُحَدُّ، وإن حصل له الظنّ فعلًا، ولا يحدّ إن ادّعى وإن لم يحصل له الظن أصلًا؛ لأن الظن أمر باطني لا يعلمه القاضي إلا بدعوى صاحبه، فالشرط في انتفاء الحد علم القاضي أنه ظنّ الحل، وذلك لا يكون إلا بدعواه وإخباره.
وهذه الشبهة -شبهة الفعل- تُسقِط الحدّ عند جمهور الحنفية إعمالًا لظنّه في موضع الاشتباه، أما النسب فلا يثبت معها؛ لأن الفعل زنا حقيقي، والنسب لا يثبت بالزنا، إلا أنهم استثنوا من عدم ثبوت النسب صورتين:
- الأولى: وطء المطلقة ثلاثًا في العدة وكذا المختلعة.
- والثانية: وطء مَن زُفَّتْ إليه غير امرأته معتمدًا على قول النساء: هي زوجتك. على قول بأن هذه الصورة من شبهة الفعلِ لا المحلّ. انظر: "تبيين الحقائق" (3/ 175، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"شرح منلا مسكين على الكنز" (2/ 358)، و"رد المحتار" (4/ 21)، و"العناية مع فتح القدير" (5/ 247 وما بعدها، ط. دار الفكر)، و"اللباب" (3/ 190، ط. المكتبة العلمية).
- الثاني من أقسام الشبهة: شبهة محلّ: ومعناها قيام الدليل النافي للحرمةِ، فليست مبنيّة على ظنّ المكلَّف واعتقاده، بل على كون محلّ الفعل فيه وجه حلٍّ للفعل المأتي به، وتسمَّى شبهةٌ في المحل أو شبهةُ محل؛ لأنها ناشئة عن دليل موجب للحلّ في المحلّ، وتسمى شبهة حكمية؛ لكون الثابت فيها شبهة الحكم بالحل، وهذا النوع من الشبه مسقط أيضًا للحد، وإن ادعى علمه بحرمة الفعل. انظر: "رد المحتار" (4/ 20).
وقد مثَّل الحنفية لهذه الشبهة بعدة صور، منها: وطء جارية ولده، ووطء المطلقة طلاقًا بائنًا بالكنايات، ووطء الجارية المبيعة في حق البائع قبل التسليم، والجارية الممهورة في حق الزوج قبل قبض الزوجة لها، والجارية المشتركة بينه وبين غيره.
والمعنى في هذه الشبهة ثبوت الملك ولو من وجه؛ فمثلًا في وطء جاريةِ ولده لا يُحَدُّ لقيام المقتضى للملك، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» رواه ابن ماجه، وقال الشيخ البوصيري: إسناده صحيح، رجاله ثقات على شرط الشيخين.
فهذا الحديث دليل موجب للحِلِّ في المحلّ، فهو يقتضي الملك؛ لأن اللام فيه للملك، لكنْ عارَضَه مانع من إرادة حقيقة الملك وهو الإجماع على عدم إرادته حقيقة، فظاهرُ إضافة مال الابن إلى الأب بحرف اللام يقتضي حقيقة الملك، فلئن تقاعد عن إفادة الملك فلا يتقاعد عن إيراد الشبهة التي تدرأ الحد عن الواطئ، وكذا يقال في باقي الصور.
وهذه الشبهة كشبهة الفعل في درء الحد بها، إلا أن النسبَ يثبت معها غالبًا إذا ادَّعاه.
- الثالث من أقسام الشبهة: شبهةُ العقد: وهي التي قال بها الإمام أبو حنيفة، وقد ألحقها بعض الحنفية بشبهتي الفعل والمحلّ؛ لأن الأمثلة المذكورة لهذه الشبهة ترجع إليهما، ولذلك يقول العلامة ابن عابدين في "رد المحتار" (4/ 19): [والتحقيق دخول هذه في الأوليين] اهـ؛ أي دخول شبهة العقد في شبهتي الفعل والمحلّ.
يقول العلامة الطحطاوي في "حاشيته" (2/ 396، ط. بولاق) -عند قول "الدر": (فظهر أن تقسيمَها -أي الشبهة- ثلاثةَ أقسام، قولُ الإمام): [إن أراد التقسيم من حيث الحكم فهي اثنان عند الكل، غايته أن حكم شبهة العقد عند الإمام حكم شبهة المحل، وعندهما حكم شبهة الفعل، وإن أراد التقسيم من حيث المفهوم فهي اثنان أيضًا؛ لأن شبهة العقد منها ما هو شبهة الفعل كمعتدة الثلاث، ومنها ما هو شبهة المحلّ كمسألة المتن، أي النكاح بلا شهود اهـ.
وشبهةُ العقد كمن عقد على مَن لا يحلّ له نكاحها كمحارمه، فلا يحدّ عند أبي حنيفة وإن علم بالحرمة؛ فالفعل -أي الوطء- وإن كان محرمًا باتفاق، إلا أن وجود صورة العقد من أهله في محلّ قابل للتصرف في الجملة يورث العقد شبهةً يندرئ بها الحدُّ، والمحلّ هنا الأنثى من بنات آدم القابلة للتوالد، وكذا الحكم في العقد على منكوحة الغير أو معتدته من طلاق الثلاث البائن أو الأمة بغير إذن سيدها أو عقد على أمة وتحته حرة، أو على مجوسية، أو جمع بين خمس نسوة أو بين الأختين، ففي كل ذلك لا يُحَدُّ عند أبي حنيفة؛ لوجود صورة العقد الذي يورث شبهةً يندرئ الحدُّ بمثلها.
ومع سقوط الحد في هذه الصور إلا أنه يعزَّر حتى وإن لم يعلم بحرمة ما فعله، لكنْ ينبغي تقدير عقوبة تعزيرية أخف في حق مَن لم يعلم.
وقال الصاحبان من الحنفية: مَن عقد على مَن تحرم عليه لنسبٍ أو رضاعٍ أو مصاهرةٍ ووطئها فيجبُ الحدّ، ولا عبرة لصورة العقد؛ لأن العقد لم يصادف محلًّا قابلًا لحكمه، فَيُحَد شريطة علمه بالحرمة، وكذا لو وطئ مَن استأجرها للزنا، فيُحدّ لأن عقد الإجارة لا يستباح به البضع، فصار كما لو استأجرها للطبخ ونحوه من الأعمال ثم زنى بها، فإنه يحدّ اتفاقًا.
أما باقي الصور فلم يخالف فيها الصاحبان أبا حنفية؛ لتمكن الشبهة في هذه الصور. وعند التدقيق نجد أن لا خلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه لاختلاف الحيثية] اهـ. بتصرف يسير.
أما أثر هذه الشبهة في ثبوت النسب فمختلف فيه، فالذي ألحق شبهة العقد بشبهة الفعل قائل بعدم ثبوت النسب مع هذه الشبهة، والعكس مع شبهة المحلّ، لكن الأقرب -والله أعلم- إلحاقها بشبهة الفعل؛ لأن الشبهة في المحلّ تقتضي وجود الحلّ ولو بوجه؛ إذ إنها قائمة على ثبوت الملك في المحلّ بوجهٍ ما كما قلنا، بخلاف شبهة الفعل حيث لا وجه للحلّ في المحلّ أصلًا، وفي هذه الصور المذكورة لشبهة العقد لا وجه للحلّ في محلّ العقد مطلقًا، وعليه: فلا يثبت النسب مع وجود هذه الشبهة.
أما كلام الشافعية فيشبه في الجملة إلى حدّ كبير كلامَ الحنفية، على أن هذا الشبه والتوافق بين الشافعية والحنفية إنما هو في أصل القاعدة، وإلا فالاختلاف موجود بينهم في بعض المسائل من حيث اعتبارها من صور الشبهة أو لا.
وقد قسَّم الشافعية الشبهة إلى ثلاثة أقسام:
- الأول: شبهة فاعل: ويسميها الإمام الماوردي شبهة فعل، ومثالها مَن يجد امرأة في فراشه فيطؤها ظانًّا أنها زوجته أو أمته، فلا حدّ عليه إن ادّعى ذلك، وهو عين ما قاله السادة الحنفية، فدرء الحدّ هنا مبناه على ظن الحلّ، إلا أن السادة الشافعية جعلوا الإكراه من شبهة الفاعل، وقالوا: إن النسب يلحق الواطئ مع هذه الشبهة خلافًا لما عليه الحنفية. راجع: "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 123، ط. دار الكتب العلمية)، و"الفوائد الجنية" للعلامة الفاداني (2/ 130)، و"روضة الطالبين" (7/ 311، ط. عالم الكتب)، و"مغني المحتاج" (5/ 444، دار الكتب العلمية).
- الثاني: شبهة محلّ: ويسميه البعض شبهة في الموطوءة، ومثَّلوا لها بمن وطئ زوجته الحائض أو الصائمة أو المُحْرِمة، أو موطوءة أبيه وابنه، وكما لو سرق مال ابنه، فيسقط الحدّ في مثل هذه الصور. والمعنى في هذه الشبهة كما سبق ثبوت الملك ولو من وجه.
- الثالث: شبهة مذهب أو جهة أو طريق: وهي كل جهة صحَّحها بعض العلماء وقوي دليله، ومثاله عدم الحدّ في نكاح الثيب بلا ولي مراعاة لخلاف أبي حنيفة القائل بعدم اشتراط الولي في النكاح، والنكاح بلا شهود مراعاة لخلاف مالك، ونكاح المتعة مراعاة لخلاف ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا لو شرب الخمر متداويًا. راجع: "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 123)، و"القواعد الكبرى" للإمام العز بن عبد السلام (2/ 279-280)، و"الفوائد الجنية" (2/ 130).
ومعنى ذلك أن يكون الفعلُ حرامًا عند قوم حلالًا عن آخرين، فلا يحدّ مرتكبه، وإن كان يعتقد أنه حرام، لكن عدم الحد هنا مبناه على التعارض بين دليل الحلّ ودليل الحرمة، أي ليس للخلاف ذاته مدخل في اعتبار الشبهة؛ يقول الإمام العز بن عبد السلام في "قواعده" (2/ 191): [وقد أطلق الفقهاء أن اختلاف العلماء شبهة، وليس ذلك على إطلاقه؛ إذ ليس عين الخلاف شبهة بدليل أن خلاف عطاء في جواز وطء الجواري بالإباحة خلاف محقق، ومع ذلك لا يدرأ الحدّ، وإنما الشبهة الدارئة للحدّ ففي مأخذ الخلاف وأدلته المتقاربة] اهـ.
ويصحّ التمثيلُ لهذا النوع من الشبهة بكل مسألة اختلف فيها الفقهاء بين مجيزٍ ومانعٍ، حتى وإن كان خارج دائرة الحدود، ويدخل في هذا النوازلُ، فقد تختلف فيها الأنظار بناءً على انعدام الدليل أو خفائها كما سبق، لكن الشرط في الخلاف حتى يورث شبهة أن يكون قويًّا، وهو ما يعبَّر عنه بأن يكون قوي المُدرك، فإذا كان ضعيفًا فلا يؤبه به، ولا يعدُّ شبهة دارئة للحد؛ جاء في "المواهب السنية" للإمام الجَرْهَزي (2/ 141-142): [وفي "قواعد التاج": إذا ضعف المدرك كان معدودًا من الهفوات والسقطات لا من الخلافيات المجتهدات؛ لأنه لا ينظر إلى القائلين المجتهدين بل إلى أقوالهم في مداركها قوة وضعفًا، ونعني بالقوة ما يوجب وقوف الذهن عندها وتعلق ذي الفطنة بسبيلها لا انتهاض الحجة بها، فإن الحجة لو انتهضت بها لما كنا مخالفين لها.
إذا عرفتَ هذا فمَنْ قَوِيَ مدركه وإن كان أَدْوَنَ اعتُدَّ به، ومن لا فلا، وإن كان أرفع.. وقوة المدرك وضعفه مما لا ينتهي إلى الإحاطة به إلا الأفراد، وقد يظهر الضعف أو القوة بأدنى تأمل، وقد يحتاج إلى تأمل وفكر، ولا بد أن يقع هنا خلاف في الاعتداد به ناشئًا عن أن المدرك قوي أو ضعيف] اهـ.
ولا يُعَدُّ الخلاف شبهة دارئة للحدّ أيضًا إذا حكم الحاكم بأحد الرأيين؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، ويصير كالمجمع عليه.
أما أكثر المالكية والحنابلة فلم يذكروا تقسيمًا واضحًا للشبهة كما سبق عند الحنفية والشافعية، إلا أن الكلام على أنواع الشبهة منثور في عباراتهم حسب المسألة المبحوث عنها، بل قد مثَّلوا في بعضها بنفس الصور السابق ذكرها عند الحنفية، وبيَّنوا ما يترتب على وجودها، أما كتقسيم فعند المالكية أورد الإمام ابن شاس في "عقد الجواهر الثمينة"، ونقله الإمام القرافي؛ يقول ابن شاس في كتاب "الزنا" (3/ 306، ط. دار الغرب): [والنظر في طرفين: الأول: في الموجِب والموجَب: والضابط أن انتهاك حرمة الفرج المحترم بالوطء المحرَّم في غير ملك إذا انتفت عنه الشبهة سبب لوجوب الحد.. وقولُنا: لا شبهة فيه احترزنا به عن شبهة في المحلّ أو الفاعل أو الطريق. أما شبهة المحلّ بأن تكون مملوكة، وإن كانت محرَّمة بسبب رضاع أو نسب، أو شركة أو عدة أو تزويج فلا حدّ في وطئها. وأما الفاعل بأن يظن أنها مملوكته أو زوجته. وأما في الطريق بأن يختلف العلماء في إباحته كنكاح بلا وليّ أو بغير شهود إذا استفاض واشتهر، فإن جميع ذلك يدرأ الحدّ] اهـ.
وبنحوه في "الفروق"، إلا أنه زاد أن هذه الشُّبه لا يسقطُ بها الحدّ فقط، بل والكفارات، لكن شرطه اعتقاد المُقْدِم مقارنة السبب المبيح، وهو عين ما قاله الحنفية في شبهة الفعل أن يكون الموضعُ موضع اشتباهٍ، ويعلِّل القرافي ذلك بأن اشتباه صورة الأسباب المبيحة وتحقيق شروطها ومقاديرها لا يعلمه إلا الفقهاء الفحول، وتحقيقه عسيرٌ على أكثر الناس، فكان اللبس فيه عذرًا، وما هو مشهور لا يكون اللبس فيه عذرًا.
وعليه: فما لم يتحقق فيه هذا الشرط أو خرج عن هذه الشُّبَهِ فيحد الفاعل ولا تسقط الكفارة.
فمثال المواضع التي يسقط فيها الحدّ أو الكفارة: ما إذا جامع في رمضان ناسيًا فظنّ أن ذلك يبطل صومه فتعمد الفطر ثانية، أو امرأة رأت الطّهر في رمضان ليلًا فلم تغتسل حتى أصبحت فظنت أنه لا صوم لمن لم يغتسل قبل الفجر فأكلت، وكالأب يسرق من مال ابنه، أو العبد يسرق من مال سيده.
ومثال المواضع التي لا يُعذَرُ فيها: امرأة قالت: اليوم أحيض، وكان يوم حيضها ذلك فأفطرت أول نهارها وحاضت في آخره، وكما لو شرب خمرًا يعتقد أنه سيصير خلًّا، أو وطئ امرأة يعتقد أنه سيتزوجها، فإن الحدّ لا يسقط؛ لعدم اعتقاد مقارنة السبب المبيح، وكذا مَن عقد على أخته من الرضاع أو النسب، أو ذات محرم ووطئهما عامدًا عالمًا بالتحريم. راجع: "الفروق وتهذيبه" (4/ 172، ط. عالم الكتب).
أما الحنابلة فقد ذكر الإمام البعلي في "الاختيارات الفقهية" في كلامه على الصداق (ص: 142، ط. مطبعة كردستان العلمية، القاهرة): [فالشبهة ثلاثة أقسام: شبهة عقد، وشبهة اعتقاد، وشبهة ملك] اهـ.
وهي في مجملها لا تخرج عما قاله الحنفية والشافعية من أقسام.
تلك هي أقسام الشبهة عند المذاهب الأربعة، وقد سبق أن قلنا: إن هناك صورًا أخرى تطلق عليها شبهة لم يفردها الفقهاء بتسمية، لكنهم أوردوها في ثنايا كلامهم، ولذا تجد بعض المعاصرين يَنْصَبُّ اجتهادهم في تعدادها وتسميتها، وهو أمر قد تختلف فيه الأنظار، لكن يقال فيها ما يقال في غيرها: لا مشاحّة في الاصطلاح، فالمهمّ بيان أثر هذه الشبه على المحلّ الواردة فيه.
فمن أمثلة تلك الصور -وهي كثيرة-: ما لو اشترى ثوبًا وصبغه ثم اطلع على عيب قديم، هل له إمضاء البيع ورجوع المشتري بأرش النقص، أم أن للمشتري رد الثوب وأخذ زيادته بالصبغ؟ بكلٍّ قال قائل، لكن في ردّ المشتري الثوب وأخذ الزيادة شبهة ربا، فكأن المشتري أعطاه ألفًا ليأخذ ألفًا ومائتين. فقد أطلق البعض على هذه الصورة "شبهة الربا" وخصها بتقسيم، واجتهد في جمع نظائرها من الفروع الفقهية.
والكلام على مواضع هذه الصور وتتبع الفروع الفقهية المتعلقة بها أمرٌ قد يطول وقد يتشعب الكلام، وقد أُفْرِدَت دراساتٌ خاصة لجمع هذه المسائل، لكن الجامع بين هذه الصور وغيرها هو ما سبق من تعريف الشبهة، فكل موضع وصورة وُجِدَ فيها ما يشبه الثابت وليس ثابتًا صح جعله شبهة، ثم يأتي بعد ذلك البحث عن أثرها في الحكم المرتبط بها في ضوء الأركان والشروط.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 30 أبريل 2025 م
الفجر
4 :38
الشروق
6 :13
الظهر
12 : 52
العصر
4:29
المغرب
7 : 32
العشاء
8 :56