الفرق بين التشدد والأخذ بالأحوط

تاريخ الفتوى:14 يناير 2013 م

جاءت شريعة الإسلام بالرفق والرحمة والهداية إلى الصراط المستقيم، وكان من أهم مقاصدها رفع المشقة والحرج عن الناس؛ قال الحق تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال سبحانه: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157]، وقال جلَّ شأنه: ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [المائدة: 6]، ولهذا فإن التشدد في الدين أمر مذموم؛ لأنه يتنافى مع مقاصد الشريعة السمحة ومع ما جاء في نصوصها الصريحة الدالة على أن مدار التكليف هو التيسير والتخفيف والمقاربة قدر استطاعة المكلف.

روى البخاري في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ». قال الحافظ ابن رجب في "شرح صحيح البخاري" (1/ 149-151، ط. مكتبة الغرباء الأثرية، المدينة المنورة): [ومعنى الحديث: النهي عن التشديد في الدين بأن يُحَمِّل الإنسان نفسه من العبادة ما لا يحتمله إلا بكلفة شديدة، وهذا هو المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ» يعني: أن الدين لا يؤخذ بالمغالبة فمن شاد الدين غلبه وقطعه... وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا». التسديد: هو إصابة الغرض المقصود، وأصله من تسديد السهم إذا أصاب الغرض المرمي إليه ولم يخطئه. والمقاربة: أن يقارب الغرض وإن لم يصبه؛ لكن يكون مجتهدًا على الإصابة فيصيب تارة ويقارب تارة أخرى، أو تكون المقاربة لمن عجز عن الإصابة؛ كما قال تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»] اهـ.

وروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما"- واللفظ لمسلم- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا الحبشة يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحرابهم، إذ دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأهوى إلى الحصباء يحصبهم بها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعْهُمْ يَا عُمَرُ»، وفي رواية البخاري من طريق آخر: أنهم كانوا يلعبون في المسجد، وروى أحمد في "مسنده"- وحسَّنه الحافظ ابن حجر في "تغليق التعليق" (2/ 43، ط. المكتب الإسلامي)- عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ: «لَتَعْلَمُ يَهُودُ أَنَّ فِي دِينِنَا فُسْحَةً، إِنِّي أُرْسِلْتُ بِحَنِيفِيَّةٍ سَمْحَةٍ».

وقد ذكر الإمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي في "مشكل الآثار" (1/ 269-270، ط. دار الكتب العلمية) أن هناك من استشكل حديث السيدة عائشة رضي الله عنها في لعب وفد الحبشة في المسجد قائلًا: [فيما رويتم عن عائشة رضي الله عنها ما يجب دفعه وترك قبوله؛ لأن فيه لعب السودان بالدرق في مسجد رسول الله عليه السلام، وذلك من اللهو الذي لا يصلح في غيره من المساجد وكيف فيه على تجاوز حرمته حرمتهم غير المسجد الحرام]، فأجاب الإمام الطحاوي عن هذا بقوله: [جوابنا له في ذلك بتوفيق الله وعونه أن الذي في حديث عائشة رضي الله عنها مما كان من السودان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليس من اللهو المذموم؛ لأنه مما يحتاج إليه من أمثالهم في الحرب، فذلك محمود منهم في المسجد وفيما سواه] اهـ.

وروى أحمد في "مسنده" عن محجن بن الأدرع رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إِنَّكُمْ أُمَّةٌ أُرِيدَ بِكُمُ الْيُسْرُ». يقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (1/ 94-95، ط. دار المعرفة، بيروت): [وفي حديث محجن بن الأدرع عند أحمد: «إِنَّكُمْ لَنْ تَنَالُوا هَذَا الأَمْرَ بِالمُغَالَبَةِ» و«خَيْر دِينِكُمُ اليَسَرَة»، وقد يستفاد من هذا الإشارة إلى الأخذ بالرخصة الشرعية فإن الأخذ بالعزيمة في موضع الرخصة تنطع كمن يترك التيمم عند العجز عن استعمال الماء فيفضي به استعماله إلى حصول الضرر] اهـ.

والتشدد في غير موضع التشديد يُعَدُّ من التنطع المذموم شرعًا، فما جعل الله فيه سعة ومجالًا لاختلاف العلماء وتعدد اجتهاداتهم لا يكون موضعًا للتشديد والإنكار، ولهذا تقرر في قواعد الفقه أنه: "لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه". يُنْظر: "الأشباه والنظائر" للإمام السيوطي (ص: 158، ط. دار الكتب العلمية).

ويقول الشيخ ابن تيمية في "الفتاوى الكبرى" (2/ 92، ط. دار الكتب العلمية): [وفي "صحيح مسلم" عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ» قالها ثلاثًا أي: المشددون في غير موضع التشديد] اهـ.

وروى أبو داود في "سننه" عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: «لَا تُشَدِّدُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَيُشَدَّدَ عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ قَوْمًا شَدَّدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَشَدَّدَ اللهُ عَلَيْهِمْ، فَتِلْكَ بَقَايَاهُمْ فِي الصَّوَامِعِ وَالدِّيَارِ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ».

فهذا نهي عن التشدد في الدين؛ لأنه يستتبع شدة التكليف وشدة العقوبة؛ فالله سبحانه وتعالى جعل الدين سهلًا سمحًا، ومن يخالف مقاصد الدين ويضاد الفطرة ويشدد على نفسه، فإنه حتمًا سيقصر فيما أوجبه على نفسه من الشدة التي اعتبرها من الدين، فيظل بعد ذلك يرى نفسه بعيدًا عن الدين مخالفًا له وتقل عزيمته وتضعف همته، ولا يدري أن تشدده كان هو مدخل الشيطان إليه؛ قال تعالى: ﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾ [الحديد: 27]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ».

يقول ملا علي القاري في "مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح" (1/ 266، ط. دار الفكر- بيروت): [والظاهر أن المعنى: «لا تشددوا على أنفسكم» بإيجاب العبادات الشاقة على سبيل النذر أو اليمين، فيشدد الله عليكم فيوجب عليكم بإيجابكم على أنفسكم، فتضعفوا عن القيام بحقه وتملوا وتكسلوا وتتركوا العمل فتقعوا في عذاب الله تعالى، وهذا المعنى هو الملائم للتعليل بقوله: «فإن قومًا» أي: من بني إسرائيل. «شددوا على أنفسهم»: بالعبادات الشاقة، والرياضات الصعبة، والمجاهدات التامة. «فشدد الله عليهم»: بإتمامها والقيام بحقوقها، وقيل: شددوا حين أمروا بذبح بقرة فسألوه عن لونها وسنها وغير ذلك من صفاتها، فشدد الله عليهم بأن أمرهم بذبح بقرة على صفة، لم توجد على تلك الصفة إلا بقرة واحدة لم يبعها صاحبها إلا بملء جلدها ذهبًا] اهـ.

أما الاحتياط فهو وسيلة يتوصل بها إلى غيرها، والوسائل لها أحكام المقاصد، ولهذا فهناك احتياط محمود يثاب عليه المكلف لموافقته مقاصد التشريع، وهناك احتياط مذموم يعد تنطعًا في الدين وتشددًا منهيًّا عنه في الإسلام.

والاحتياط لغةً: يأتي بمعنى الحفظ والأخذ بأحزم الأمور وأوثقها؛ جاء في "لسان العرب" لابن منظور (7/ 279، مادة: ح و ط، ط. دار صادر): [حاطه يحوطه حوطًا وحيطة وحياطة: حفظه وتعهده. واحتاط الرجل: أخذ في أموره بالأحزم. واحتاط الرجل لنفسه: أي أخذ بالثقة. والحوطة والحيطة: الاحتياط. وحاطه الله حوطا وحياطة، والاسم الحيطة والحيطة: صانه وكلأه ورعاه. حاطه يحوطه حوطًا إذا حفظه وصانه وذب عنه وتوفر على مصالحه] اهـ.

وفي "المصباح المنير" للفيومي (1/ 156، مادة: ح و ط، ط. المكتبة العلمية): [واحتاط للشيء: افتعال وهو طلب الأحوط الأحظ والأخذ بأوثق الوجوه] اهـ.

وأما اصطلاحًا: فالاحتياط عبارة عن احتراز المكلف عن فعل ما اشتبه في كونه منهيًا عنه، وعن ترك ما اشتبه في كونه مأمورًا به.
قال الجرجاني في "التعريفات" (ص: 12، ط. دار الكتب العلمية): [الاحتياط في اللغة: هو الحفظ. وفي الاصطلاح: حفظ النفس عن الوقوع في المآثم] اهـ.

وقد عرَّف الإمام القرافي الورع بما يشبه أن يكون تعريفًا للاحتياط؛ فقال في كتاب "الفروق" (4/ 210، ط. عالم الكتب): [والورع من أفعال الجوارح وهو ترك ما لا بأس به؛ حذرًا مما به بأس.. وهو مندوب إليه ومنه الخروج عن خلاف العلماء بحسب الإمكان] اهـ.

لكن الإمام العز بن عبد السلام يجعل الاحتياط أعم من الورع؛ حيث قال في "قواعد الأحكام" (2/ 18-19، ط. دار الكتب العلمية): [الاحتياط ضربان: أحدهما: ما يندب إليه، ويعبر عنه بالورع؛ كغسل اليدين ثلاثًا إذا قام من النوم قبل إدخالهما الإناء.. والضرب الثاني: ما يجب من الاحتياط لكونه وسيلة إلى تحصيل ما تحقق تحريمه] اهـ.

أما لفظ (الأحوط) يستخدم أحيانًا بدلًا من لفظ (الاحتياط)، لكنه لفظ شاذ من حيث اللغة؛ لأن أفعل التفضيل لا يبنى من المزيد؛ قال المُطَرِّزِي في "المغرب في ترتيب المعرب" (ص: 134، ط. دار الكتاب العربي): [وقولهم: هذا أحوط: أي أدخل في الاحتياط؛ شاذ، ونظيره: أخصر من الاختصار] اهـ.

وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على مشروعية العمل بالاحتياط والأمر به؛ فمن ذلك قول الله تعالي: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12]، فالله سبحانه أمر باجتناب كثير من الظن، ولم يضع حدودًا لهذه الكثرة بل أبهمها حتى يَحْذر المُكَلَّف ويبالغ في الاحتياط من الوقوع في الإثم بترك ما يحتمل أن يكون إثمًا وإن لم يقطع بكونه كذلك.

قال الإمام ابن السبكي في "الأشباه والنظائر" (1/ 110، ط. دار الكتب العلمية): [وقد اتفق لي مرة الاستدلال على هذه القاعدة- أي: العمل بالاحتياط- بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12]، فلا يخفى أنه أمر باجتناب بعض ما ليس بإثم خشية من الوقوع فيما هو إثم، وذلك هو الاحتياط، وهو استنباط جيد] اهـ.

وفي تفسير الإمام الرازي "مفاتيح الغيب" (28/ 110، ط. دار إحياء التراث العربي): [قوله تعالى: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات: 12]، إشارة إلى الأخذ بالأحوط] اهـ.

وقال الشيخ الفاداني في "الفوائد الجنية" (2/ 171، ط. دار البشائر الإسلامية، بيروت): [قوله: ﴿كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ [الحجرات: 12]، أبهم الكثير إشارةً إلى أنه ينبغي الاحتياط والتأمل في كل منهي عنه] اهـ.

وروى البخاري ومسلم- واللفظ له- عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول- وأهوى النعمان بأصبعيه إلى أذنيه-: «إِنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الحَرَامَ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ؛ كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً؛ إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»، فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» فيه دلالة على العمل بالاحتياط؛ لأن من كثر تعاطيه الشبهات صادف الحرام وإن لم يتعمده، أو أنه يعتاد التساهل فيتجرأ على شبهة ثم شبهة أغلظ منها ثم أخرى أغلظ وهكذا حتى يقع في الحرام عمدًا، والشبهات ليست من الحلال البين ولا من الحرام البَيِّن، ومع هذا فإنه ينبغي الاحتياط منها خشية الوقوع في الحرام؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ».

واتقاء الشبهات ممدوح شرعًا؛ وذلك لما يحصل لمن يفعل ذلك من تيقن البراءة من الذم الشرعي والصيانة لعرضه من كلام الناس فيه. يُنْظر: "شرح النووي على صحيح مسلم" (11/ 28، ط. دار إحياء التراث العربي).

وعموم الاحتياط والاستبراء للدين مطلوب شرعًا مطلقًا. يُنْظر: "الأشباه والنظائر" لابن السبكي (1/ 112).

وروى الترمذي وابن ماجه والحاكم في "المستدرك" وصححه عن عطية السعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ حَتَّى يَدَعَ مَا لَا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ الْبَأْسُ».

فالإنسان الذي يريد أن يكون من أهل التقوى المأمور بها شرعًا ينبغي عليه أن يبالغ في حذره من الوقوع في الإثم وإن استلزم ذلك ترك بعض المباحات مخافة أن ينجر للمحظورات، فدل الحديث على أن العمل بالاحتياط ممدوح مثاب عليه ومقصود للشارع الحكيم.

وقد عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاحتياط وحكم به في وقائع مشهورة؛ منها ما رواه الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتمرة مسقوطة فقال: «لَوْلَا أَنْ تَكُونَ مِنْ صَدَقَةٍ لَأَكَلْتُهَا».

وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إِنِّي لَأَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِي فَأَجِدُ التَّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَى فِرَاشِي، فَأَرْفَعُهَا لِآكُلَهَا، ثُمَّ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً فَأُلْقِيهَا».

وروى البخاري في "صحيحه" عن عقبة بن الحارث رضي الله عنه: أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج، فقال لها عقبة: ما أعلم أنكِ أرضعتني ولا أخبرتني. فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ» ففارقها عقبة، ونكحت زوجًا غيره.

قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (4/ 293، ط. دار المعرفة، بيروت): [وجه الدلالة فيه قوله: «كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ»؛ فإنه يشعر بأن أمره بفراق امرأته إنما كان لأجل قول المرأة إنها أرضعتهما، فاحتمل أن يكون صحيحًا فيرتكب الحرام، فأمره بفراقها؛ احتياطًا على قول الأكثر] اهـ.

وروى البخاري ومسلم- واللفظ له- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».

قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم" (3/ 179، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي هذا الحديث دلالة لمسائل كثيرة في مذهبنا ومذهب الجمهور.. ومنها: استحباب الأخذ بالاحتياط في العبادات وغيرها ما لم يخرج عن حد الاحتياط إلى حد الوسوسة] اهـ.

ويقول الإمام الجصاص الحنفي في كتاب "الفصول في الأصول" (2/ 110، ط. وزارة الأوقاف الكويتية): [واعتبار الاحتياط والأخذ بالثقة أصل كبير من أصول الفقه قد استعمله الفقهاء كلهم] اهـ.

ويقول الشيخ ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (20/ 262، ط. مجمع الملك فهد، المدينة النبوية): [رجح عامة العلماء الدليل الحاظر على الدليل المبيح، وسلك كثير من الفقهاء دليل الاحتياط في كثير من الأحكام بناء على هذا، وأما الاحتياط في الفعل فكالمجمع على حسنه بين العقلاء في الجملة] اهـ.

والاحتياط قد يكون واجبًا كما في من نسي صلاةً مِن الصلوات الخَمْس المفروضة لا يعرف عينها؛ فإنه يلزمه الخَمْس احتياطًا في التوصل بالأربع إلى تحصيل الواجبة.

وقال العلامة الشلبي في "حاشيته على تبيين الحقائق" (1/ 190، ط. دار الكتاب الإسلامي): [ولو فاتته صلاة من يوم وليلة ولا يدري أيها هي: يقضي الخمس احتياطًا] اهـ.

وقال الإمام الشيرازي في "المهذب" في فقه الإمام الشافعي (1/ 106، ط. دار الكتب العلمية): [وإن نسي صلاة ولم يعرف عينها لزمه أن يصلي خمس صلوات] اهـ. وذلك؛ لوجوب إبراء الذمة بيقين، فكل صلاة من الخمس يجوز أن تكون هي المنسيَّة، فصارت حالات الشك خمسًا، فوجب أن يصلي خمسًا؛ ليستوفيَ جميع أحوال الشكّ، ويتيقن براءة ذمته من الفرض.

وكذلك مَن خَفِيَ عليه موضعُ النجاسة من ثوب أراد تطهيره وجب عليه أن يغسله كلَّه؛ قال الإمام الشافعيُّ رضي الله عنه: "وإن خفي موضع النجاسة من الثوب غسله كله، لا يجزئه غيره". ينظر: "الحاوي الكبير" للمزني (2/ 246، ط. دار الكتب العلمية).

فالعلم بطهارة الثوب يتوقف على الاحتياط بغسله كله، وأما إن غسل أكثرَه فلا يُعَدُّ طاهًرا؛ لأن نجاسته متيقنة وزوالها مشكوك فيه لخفاء موضعها، واليقين لا يزال بالشك، فإذا لم يكن له غير هذا الثوب وجب عليه الاحتياط بغسل الثوب كله، وإذا اشتبهت على الرجل أختُه من الرضاع بأجنبية فإنه يجب عليه هنا الاحتياط بترك نكاحهما؛ لاجتناب حرمة نكاح الأخت.

وقد يكون الاحتياط مندوبًا؛ كما في استحباب الخروج من الخلاف؛ يقول الإمام النووي في "روضة الطالبين" (10/ 219، ط. المكتب الإسلامي، بيروت): [العلماء إنما ينكرون ما أُجْمِع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه؛ لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولا إثم على المخطئ. لكنْ إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب، ويكون برفق؛ لأن العلماء متفقون على استحباب الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلالٌ بسُنَّةٍ ثابتة أو وقوعٌ في خلافٍ آخر] اهـ.

ويتفرع على هذه القاعدة الكثير من المسائل المذكورة في كتب الفقه من كل مذهب، فيستحب عند الحنفية الوضوء من مس المرأة؛ للخروج من خلاف من أوجبه. يُنْظر: "حاشية ابن عابدين" (1/ 90، ط دار الكتب العلمية).

كما يندب عند المالكية قراءة البسملة أول الفاتحة في الصلاة إذا قصد بذلك الخروج من خلاف من أوجبها. يُنْظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (1/ 251-252، ط. دار إحياء الكتب العربية).

ويستحب عند الشافعية مسح كل الرأس في الوضوء خروجًا من خلاف من أوجبه. يُنْظر: "مغني المحتاج" للخطيب الشربيني (1/ 189، ط. دار الكتب العلمية).

ويستحب عند الحنابلة لمن لا يحسن قراءة الفاتحة أن يصلى خلف قارئ لتكون قراءة الإمام قراءة له؛ خروجًا من الخلاف. يُنْظر: "كشاف القناع" للبهوتي (1/ 342، ط. دار الكتب العلمية).

وقد يكون الاحتياط مذمومًا إذا بلغ حد التنطع والابتداع والتشدد في الدين؛ فيُكره أو يحرم بحسب ما يترتب عليه من مفاسد وأضرار، ومثال الاحتياط المكروه: أن من شك في عدد الغسلات في الوضوء هل غسل مرتين أم ثلاثًا يكره له العمل بالاحتياط عند الإمام أبي محمد الجويني وذلك حتى لا يقع في الغسلة الرابعة البدعية، فهو متردد بين الغسلة الرابعة وهي بدعة وبين الغسلة الثالثة وهي سنة، وترك سنة أولى من اقتحام بدعة، بخلاف المصلى الذي يشك في عدد الركعات فإنه يأخذ بالأقل ليتيقن أداء الفرض. يُنْظر: "المجموع شرح المهذب" للإمام النووي (1/ 440، ط. دار الفكر).

وقد يصل المكلَّف بسبب العمل بما يسميه احتياطًا إلى حدِّ الوسوسة وإبطال العبادات، فالاحتياط الواجب في هذه الحالة هو ترك الاحتياط، فمثلًا: مَنْ جعَلَتْه الوسوسة يُحرِم بصلاة الظهر مثلًا ثم يخرج منها، ثم يحرم ثم يخرج، بزعم أنه يحتاط في أن يحقِّق ركن الإحرام على وجهه الصحيح، فقد أوقعه هذا الاحتياط الذي يدَّعيه إلى الوقوع في المحرَّم، وهو قطع الفريضة بلا عذر والخروج من صلاةٍ لا يتيقن بطلانها، مُخالِفًا بذلك الأمر الوارد في قوله تعالى: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 33]، وفي الحديث الشريف الذي رواه البخاري ومسلم عن عباد بن تميم، عن عمه قال: شُكِي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرجل يجد في الصلاة شيئًا، أيقطع الصلاة؟ قال: «لَا، حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا». ففي هذا الحديث نهي عن أن يقطع الرجل صلاته إلا إذا تيقن الحدث.

يقول الإمام الزركشي في "المنثور" (3/ 38، ط. وزارة الأوقاف الكويتية): [فرض العين يلزم بالشروع إلا لعذر] اهـ.

ويقول شيخ الإسلام زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب" (1/ 430، بـ"حاشية الرملي الكبير"، ط. دار الكتاب الإسلامي): [(ويحرم الخروج من صوم وجب على الفور) أداء أو قضاء (وكذا على التراخي)؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد: 33]، ولتلبسه بالواجب ولا عذر كما لو شرع في الصلاة أول الوقت] اهـ.

ومما سبق: يتبين أن مفهوم الاحتياط أعم من مفهوم التشدد في الدين؛ وذلك لأن الاحتياط منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، ومن الاحتياط المحمود الأخذ بأرجح أقوال العلماء وأبعدها عن احتمال الخطأ، ومنه الخروج من الخلاف قدر الإمكان فهذا مستحب بالاتفاق ما لم يترتب عليه إخلالٌ بمقاصد الشريعة السمحاء، والاحتياط المحمود أصل مقرر في الدين، عمل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأمر به وحكم به في العديد من الوقائع، ولهذا أخذ به جميع علماء الإسلام، بخلاف التشدد في الدين والذي هو صورة من صور الاحتياط المذموم، والذي يتردد حكمه بين الحرمة والكراهة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.

مَواقِيتُ الصَّـــلاة

القاهرة · 26 أبريل 2025 م
الفجر
4 :43
الشروق
6 :16
الظهر
12 : 53
العصر
4:29
المغرب
7 : 29
العشاء
8 :53