رغَّب الشَّرع الشَّريف في إعانة الملهوف وفكِّ الكروب عنه؛ ففي "صحيح مسلم" عن أبي هريرة: «مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ».
وفكُّ الكروب من المآثر التي يفتخر بها غير المسلمين -مما يؤكد إنسانيتها-، حتى جعل الشرع الشريف ثوابها فكَّ كربة من كرب يوم القيامة.
والعقد الذي تم بين صاحب السؤال وصديقه يسمى "بيع الوفاء"، وله عدة تسميات أخرى؛ فيسميه المالكية: "بيع الثُّنْيَا"، والشافعية: "بيعَ العُهدة"، والحنابلة: "بيع الأمانة"، ويسمى أيضًا: "بيع الطاعة"، و"بيع الجائز"، وسمي في بعض كتب الحنفية: "بيع المعاملة".
وصورته -كما جاء في السؤال- أن يبيع السلعة، بشرط أن البائع متى ردَّ الثمن يرد المشتري المبيع إليه. وإنما سمي "بيع الوفاء"؛ لأن المشتري يلزمه الوفاء بالشرط.
وقد اشتهر في الأبحاث الفقهية والقانونية باسم "بيع الوفاء"؛ تغليبًا لتسمية الحنفية، وقد يرجع السبب -في نظرنا- أن مشكلة هذا البيع ظهرت في القرن الخامس في بلاد "بخارى" و"بَلْخ" وهي حنفية المذهب.
ومهما كان السبب، فإن هذا البيع لجأ إليه الناس كبديل للقروض الربوية، فمعلوم أن كل قرضٍ جرَّ نفعًا حرامٌ، ومع شدة احتياج الناس إلى مَن يقرضهم، وعزوف أصحاب رؤوس الأموال عن تقديم القروض الحسنة، تُوُصِّلَ إلى هذا النوع من البياعات التي تلبي رغبة كلا الطرفين؛ المحتاج: من حيث قضاء وطره، وعدم بيع سلعته الحريص عليها حرصًا شديدًا، وصاحب المال: من حيث الانتفاع بالسلعة، مع ضمان عدم خسارة ماله بلا مقابل، وكلا الطرفين يحقق البعد عن الوقوع في الإثم المتمثل في حرمة التعامل بالربا؛ أي: "ربا القرض".
وهذا التعامل يشبه عقد الرَّهنِ، إلا أنه يتميز عليه ببعض المزايا جعلته مفضَّلًا عليه؛ حيث إن عقد الرهن لا يحل فيه للمرتهن الانتفاع بالمرهون، حتى مَن أجاز الانتفاع به فإنه شرط أن لا يكون المرهون به دين قرض، في حين أن بيع الوفاء يحق فيه للمشتري الانتفاع بالمبيع لأنه ملكه.
وقد اختلف الفقهاء في تكييف هذه المعاملة، هل هي بيع أو رهن، كما اختلفوا في مشروعيتها على آراء:
الرأي الأول: أن بيع الوفاء لا يصح، ومنهم من جعله بيعًا باطلًا؛ وهو قول جمهور الفقهاء، من المالكية والحنابلة، وجمهور الحنفية والشافعية، وعلَّلوا ذلك بأن شرط استرداد المبيع عند رد الثمن شرط مناقض لمقتضى عقد البيع المتمثل في تمليك المبيع للمشتري على وجه الدوام، كما أنه لا يوجد دليل على جواز شرط الوفاء، وبيع الوفاء لا يقصد منه البيع حقيقة، وإن كان صورته البيع؛ فالحاصل فيه أنه سلف جرَّ نفعًا فلا يجوز. يُراجع: "تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق" للزيلعي (5/ 183-184، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"العناية" للبابرتي، و"فتح القدير" لابن الهمام (9/ 236-237، ط. دار الفكر)، و"رد المحتار" لابن عابدين (5/ 276، ط. دار الفكر)، و"المنتقى" للباجي (4/ 210، ط. دار الكتاب الإسلامي)، و"منح الجليل" للشيخ عليش (5/ 52، ط. دار الفكر)، و"تحرير الكلام" للحطاب (ص: 232، ط. دار الغرب الإسلامي)، و"تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي -بــ"حاشية الشرواني"- (4/ 297، ط. دار إحياء التراث العربي)، و"كشاف القناع" للبهوتي (3/ 149-150، ط. دار الفكر).
وعليه: فيُرَدُّ الثمن للمشتري والمبيع للبائع.
وهذا الرأي يتماشى مع مذهب الحنفية والشافعية في الشروط العَقْدِيَّةِ؛ حيث إنهم لا يجيزون من الشروط إلا ما كان من مقتضى العقد أو ملائمًا له، أو جرى به عرف -كما هو قول الحنفية-، بخلاف المالكية والحنابلة فإنهم يتوسَّعون في الشروط ويصححون كلَّ الشروط، عدا ما كان مخالفًا لمقتضى العقد أو الشرع.
ومن أصحاب هذا الرأي من جعل بيع الوفاء رهنًا باطلًا، وهو لبعض المالكية. يُراجع: "تحرير الكلام" للحطاب (ص: 236).
ومنهم من جعله بيعًا فاسدًا وأنزلوه منزلة بيع المكره، وهو لبعض الحنفية، فيثبت فيه ملكية المبيع للمشتري إذا حصل القبض، وثبوت الحق للبائع في فسخ العقد. يُراجع: "تبيين الحقائق" للزيلعي (5/ 183).
الرأي الثاني: أن بيع الوفاء عقد صحيح، ويكيَّف على أنه رهن، وإليه مال بعض الحنفية، وعلَّلوا ذلك بأن البائع قد اشترط على المشتري أخذ المبيع عند قضاء الدين، وذلك معنى الرهن، والعبرة في العقود بمعانيها لا مبانيها؛ وعلى ذلك فيجري على هذا العقد أحكام الرهن، فلا يملكه المشتري ولا ينتفع به، ويضمن ما يتلف منه تعدِّيًا أو تفريطًا. يراجع: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (9/ 236).
وهذا القول راعى تصحيح العقد قدر الإمكان وصيانته عن الإبطال، لكن ذلك قد يحتمل بعد انعقاد العقد لا في ابتدائه؛ إذ "يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء"، لا سيما وأن تكييف العقد على أنه رهن لا يلبِّي رغبة أحد الطرفين، ولا يؤدي للغرض الحقيقي الذي من أجله أقدم على إنشاء هذا العقد، لأنه بهذا التكييف لا يحلُّ للمشتري (صاحب المال) الانتفاع بالمبيع مدة الرهن، وهذا إخلال بغرضه من الإقدام على هذه المعاملة.
الرأي الثالث: أن بيع الوفاء بيع صحيح منتج بعض أحكامه؛ ودليل جوازه الحاجة وتعامل الناس، وقال به متأخرو الحنفية، ومعنى ذلك أن يحل للمشتري الانتفاع بالمبيع دون التصرف فيه بيعًا وهبة ونحوه. يراجع: "العناية شرح الهداية" للبابرتي (9/ 236-237).
وبالنظر لبيع الوفاء نجد أن حكمه الفقهي تتجاذبُه عدة أمور:
فهو من حيث الشكل والصيغة عقد بيع.
ومن حيث المضمون عقد رهن، ولا يجوز في الرهن عند جمهور الفقهاء الانتفاع بالمرهون، حتى مَن أجازه اشترط شروطًا تُخرج صورة بيع الوفاء عن الجواز.
وتأتي قاعدة هل العبرة في العقود اللفظ أم المعنى لتلحقه بأحد التكييفين، فيصح لمن يعتبر الألفاظ دون النيات والقصد أن يجعله بيعًا صحيحًا أو فاسدًا على الخلاف، ويصح لمن يعكس –أي: يعتبر النية والقصد- جعله رهنًا صحيحًا أو فاسدًا على الخلاف.
يضاف إلى ذلك أن الداعي إلى إنشاء هذا البيع هو الحاجة إلى القرض مع عدم مَن يقرض تبرُّعًا، وهو بهذا المعنى قرض جر نفعًا، وهو حرام إجماعًا؛ ولهذا المعنى، ولما ذكره الجمهور نرجِّح القول بالمنع، وهو ما أخذ به مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة في دورته السابعة المنعقدة في المدة من 7-12 من ذي القعدة 1412هـ/ الموافق 14 مايو 1992م بالقرار رقم (66).
وبالمنع أيضًا أخذ القانون المصري في مادته (465 مدني)؛ حيث نصَّ على أنَّه: "إذا احتفظ البائع عند البيع بحق استرداد المبيع خلال مدة معينة وقع البيع باطلًا".
وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال: فإنه لا يجوز للسائل أن يبيع سيارته لأحدٍ بشرط أن يردها عليه عندما يتمكن من رد الثمن بعد عام، فهذا هو بيع الوفاء أو بيع العهدة، إلى آخر أسمائه، وهو غير جائزٍ شرعًا على الرأي الراجح.
والله سبحانه وتعالى أعلم.