علم الكلام، وعلم أصول الدين، وعلم التوحيد والصفات، ثلاثة أسماء مترادفة لمسمًّى واحد، وقد أطال العلامة سعد الدين التفتازاني في بيان أسباب تسمية هذا العلم باسم: علم الكلام؛ فقال في "شرح العقائد النسفية" (ص: 10، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [لأن عنوان مباحثه كان قولهم: الكلام في كذا وكذا؛ ولأن مسألة الكلام كان أشهر مباحثه وأكثرها نزاعًا وجدالًا، حتى إن بعض المتغلبة قتل كثيرًا من أهل الحق؛ لعدم قولهم بخلق القرآن] اهـ.
وقالوا غير ذلك، وسُمِّي بعلم التوحيد؛ لأن مبحث الوحدانية أشهر مباحثه، وسمي بعلم أصول الدين؛ لابتناء الدين عليه.
وعلم الكلام هو: علم إقامة الأدلة على صحة العقائد الإيمانية، وهو بهذا المعنى لا ذم فيه ألبتة، بل كان أمرًا امتلأ به كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، فقد عرف علماء الكلام ذلك العلم بأنه: علم يُقْتَدر به على إثبات العقائد الدينية مُكْتَسَب من أدلتها اليقينية. انظر: "تحفة المريد على جوهرة التوحيد" للإمام البيجوري (ص: 38، ط. دار السلام).
فهو علم عظيم شأنه، جليل قدره، يعالج أهم قضايا الإنسان على هذه الأرض، مثل: قضية الألوهية، وقضية الرسالة، وقضية الجزاء في اليوم الآخر، وغير ذلك.
وسبب نشأة علم الكلام هو الرد على المبتدعة، الذين أكثروا من الجدال مع علماء المسلمين، وأوردوا شُبها على ما قرره الأوائل، وخلطوا تلك الشُّبه بكثير من القواعد الفلسفية، فاحتاج العلماء من أهل السنة إلى مقاومتهم ومجادلتهم ومناظرتهم حتى لا يلبسوا على الضعفاء أمر دينهم، وحتى لا يُدْخِلُوا في الدين ما ليس منه، ولو ترك العلماء هؤلاء الزنادقة وما يصنعون؛ لاستولوا على كثير من عقول الضعفاء وعوام المسلمين، والقاصرين من فقهائهم وعلمائهم، فأضلوهم وغَيَّروا ما عندهم من الاعتقادات الصحيحة، ولا شك أن هذا أمر حسن، فالأمور بمقاصدها.
وقبل تصدي هؤلاء العلماء لهم لم يكن أحد يقاومهم، وكيف يقاومهم وهو لا يفهم كلامهم لعدم اشتغاله به؛ لأنه لا يرد عليه إلا من يفهمه، وسكوتهم هذا أدى إلى نشر كلام هؤلاء الزنادقة حتى اعتقده بعض الجاهلين، فكان لِزَامًا على علماء المسلمين أن يقوموا بالرد على هؤلاء من خلال تعلمهم هذا العلم ونبوغهم فيه؛ لأن إفحامهم بنفس أدلتهم أدعى لانقطاعهم، وإلزامهم الحق، فردوا عليهم وأبطلوا شبههم، وكانت طريقتهم في الرد هي إثبات العقائد الإسلامية، والاستدلال عليها بما هو من جنس حُجَجِ القرآن، من الكلمات المؤثرة في القلوب، المقنعة للنفوس، المورثة لثلج الصدور وطمأنينة القلوب، من الأدلة الجلِيَّة الظاهرة.
قال الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" (1/ 163-164، ط. دار الشعب) عن نهي السلف عن الاشتغال بعلم الكلام: [فإن قلت: تعلم الجدل والكلام مذموم كتعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه؟ فاعلم أن للناس في هذا غلوًّا وإسرافًا في أطراف، فمن قائل: إنه بدعة أو حرام، وإن العبد إن لقي الله عزَّ وجل بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام، ومن قائل: إنه واجب وفرض، إما على الكفاية أو على الأعيان، وإنه أفضل الأعمال وأعلى القربات، فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله تعالى، وإلى التحريم ذهب الشافعي، ومالك، وأحمد بن حنبل، وسفيان، وجميع أهل الحديث من السلف، واحتجوا بأن ذلك لو كان من الدين لكان ذلك أهم ما يأمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويعلم طريقه ويثني عليه، وعلى أربابه، ومنها ما روي عن أبي يوسف أنه قال: من طلب الدين بالكلام تزندق] اهـ.
إن نهي العلماء في هذه النصوص الواردة عنهم ليس على إطلاقه، ولكنه مُنْصَبٌّ على مَنِ استخدم علم الكلام على طريقة الفلاسفة، وعلى طريقة أهل الأهواء والبدع الذين غَلَّبوا جانب العقل، وتركوا الكتاب والسنة، وجعلوا معولهم عقولهم، وأخذوا بتسوية الكتاب والسنة عليها، والإكثار من إيراد الشبَه الواردة على عقائد أهل السنة مما لم يكن يعرف شيء منه في العصر الأول، بل كانوا يُشَدِّدون النَّكير على مَن يفتح باب الجدل والمماراة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه مسلم وأحمد: «هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ» أي: المتعمقون في البحث والاستقصاء؛ وذلك لاشتمال هذا النوع من الكلام الفلسفي المعقد على كثير من الخبط والتضليل، وعدم وفائه بما هو المقصود منه من كشف الحقائق، وعمارة القلوب باليقين، بل إنه يورث -بالعكس من ذلك- زعزعةً في العقيدة، ووهنًا في التصميم.
فهذا هو المقصود بعلم الكلام الذي ذمَّه السلف، ونهوا عن الاشتغال به، وكأن علم الكلام عندهم منصرف إلى هذا النوع، ومن أجل ذلك أطلقوا ذمه والنهي عنه ولم يُفَصِّلوا، ولا يزال هذا الاسم منصرفًا إلى هذا النوع المذموم، بحيث لا يتبادر إلى الذهن عند إطلاقه إلا هذا النوع، وإن كانت التعريفات التي صاغها العلماء لعلم الكلام أعم منه -أي: المذموم- وشاملة للنوع المحمود منه.
قال العلامة سعد الدين التفتازاني في "شرح العقائد النسفية" (ص: 12، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [ما نُقِل عن بعض السلف من الطعن فيه والمنع عنه -أي: علم الكلام- فإنما هو للمتعصب في الدين، والقاصر عن تحصيل اليقين، والقاصد إفساد عقائد المسلمين، والخائض فيما لا يفتقر إليه من غوامض المتفلسفين، وإلا فكيف يتصور المنع عما هو من أصل الواجبات وأساس المشروعات] اهـ.
ويجوز أن يُحْمل نهي السلف على ما في التغلغل في علم الكلام من خطر الدخول في البدعة أو الكفر؛ لأن الباحث فيه قد يخطئ، والخطأ فيه لا يخلو عن أحد الخطرين المذكورين.
ويجوز أن يُحْمل نهي السلف على ما اشتمل عليه علم الكلام من حكاية مذاهب أهل البدع والأهواء، وذكر الشُّبَه الواردة على اعتقاد أهل السنة، وهذا مُفْضٍ إلى نشر هذه المذاهب -وقد أُمِرْنا بإخمادها-، ومُوجبٌ لتمكن هذه الشُّبَه في القلوب، فإن الشبهة كثيرا ما تكون واضحة، ويكون الجواب عنها خفيًّا، ثم إن هذا يَجُرُّ إلى الرأي، والجدل، والمماراة في دين الله تعالى، ومن هذا ما ورد أن الإمام أحمد بن حنبل بالغ في ذم علم الكلام حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه؛ بسبب تصنيفه كتابًا في الرد على المبتدعة، وقال له: ويحك ألست تحكي بدعتهم أولًا، ثم ترد عليهم! ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة، والتفكر في تلك الشبهات، فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث. انظر: "إحياء علوم الدين" (1/ 163-164).
ويجوز أن يُحْمل نهي السلف على الاقتصار على علم الكلام وترك العلوم الإسلامية الأخرى؛ فإن هذا قد يؤدي إلى زعزعة العقيدة وسقوط هيبة الرب تبارك وتعالى من القلب.
ويجوز أن يُحْمل نهي السلف على أنه لمن انشغل بعلم الكلام وخاض فيه في الوقت الذي تعدم فيه الحاجة إليه؛ لأن أدلة المتكلمين مثل الدواء: ينتفع بها قليل الناس، ويتضرر بها الآخرون، فينبغي الاقتصار منها على قدر الحاجة ووقت الحاجة.
فإن قيل: نحن لا نحتاج إلى نشر علم الكلام وتعليمه، بل نكتفي في رد شُبَه المبتدعة بما ركز في الجبلة والطباع! نقول: ليس ما ركز في الجبلة والطباع -إن كانت سليمة- كِفَاية تامَّة لِحَلِّ شُبَهِ المبتدعة.
وما قيل عن رجوع علماء علم الكلام في آخر حياتهم عن علم الكلام، وندمهم على الوقت الذي أضاعوه من حياتهم في الاشتغال به معناه الرجوع عن التأويل إلى التفويض؛ كما ذكر الإمام السبكي في "طبقاته" (5/ 191، ط. دار هجر).
وعليه: فإن ما ورد عن السلف من نصوص تنهى عن الاشتغال بعلم الكلام محمولةٌ على من استخدم هذا العلم على طريقة الفلاسفة، وعلى طريقة أهل الأهواء والبدع الذين غَلَّبوا جانب العقل وتركوا الكتاب والسنة، وليس النهي الوارد على الإطلاق، بل إنه قد يتحتم -على سبيل الكفاية- للرد على غلو الملاحدة ونحوهم، وبهذا يعلم المذموم من علم الكلام والواجب منه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.