الحوار -وما يقاربه من ألفاظ كالمجادلة- المرادُ منه: تجاذبُ الكلام مع الآخر بما ينتج عنه التفاهمُ والتعاونُ والبناء على المتفق عليه، وتجنب الصراع على المختلف فيه، وعرض وجهات النظر المختلفة، والدعوة لتبنيها بصورة هادئة لا تثير الأحقادَ أو الكراهية، وإن كانت مادة الجدل هي ما وردت في النصوص الشرعية.
وأصل الجدل في اللغة: هو مقابلة الحجة بالحجة، وغالبًا ما يكون على سبيل المغالبة، قال الحُميدي في "تفسير غريب ما في الصحيحين" (ص: 53، ط. مكتبة السنة): [الجدال: مُقَابلَة الْحجَّة بِالْحجَّةِ، فَإِن كَانَ فِي الْوُقُوف على الْحق كَانَ مَحْمُودًا، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، وَإِن كَانَ فِي مدافعة الْحق كَانَ مذمومًا، قَالَ تَعَالَى: ﴿مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [غافر: 4]، وَسُمي هَذَا لددًا وعنادًا] اهـ.
وقال الراغب الأصفهاني في "المفردات في غريب القرآن" (ص: 189-190، ط. دار القلم): [الجِدَال: المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة، وأصله من: جَدَلْتُ الحبل، أي: أحكمت فتله، ومنه: الجَدِيل، وجدلت البناء: أحكمته، ودرع مَجْدُولَة، والأَجْدَل: الصقر المحكم البنية. والمِجْدَل: القصر المحكم البناء، ومنه: الجِدَال، فكأنَّ المتجادلين يفتل كلُّ واحد الآخر عن رأيه.
وقيل: الأصل في الجِدَال: الصراع وإسقاط الإنسان صاحبَه على الجَدَالَة، وهي الأرض الصلبة. قال الله تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، ﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ﴾ [غافر: 35]، ﴿وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ﴾ [الحج: 68]، ﴿قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ [هود: 32]، وقرئ: "جَدَلَنَا"، ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا﴾ [الزخرف: 58]، ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ [الكهف: 54]، وقال تعالى: ﴿وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللهِ﴾ [الرعد: 13]، ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾ [هود: 74]، ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ﴾ [غافر: 5]، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ﴾ [الحج: 3]، ﴿وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ [البقرة: 197]، ﴿يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا﴾ [هود: 32] اهـ.
وأما الحوار في اللغة: فهو التجاوب ومراجعة الكلام، قال ابن سيده في "المحكم" (3/ 502، ط. الكتب العلمية): [وهم يتحاورون، أَي يتراجعون الْكَلَام، والمُحاوَرةُ: مُرَاجعَة الْمنطق، وَقد حاوَره. والمَحُورَةُ من المُحاورةِ مصدر كالمَشُورة من الْمُشَاورَة. وَمَا جَاءَتْنِي عَنهُ مَحُورةٌ، أَي مَا رَجَعَ إليَّ عَنهُ خبر، وَإنَّهُ لضعيفُ الحِوارِ: أَي المحاوَرة]. اهـ.
ولقد علمنا الله تعالى كيفية الاستماع إلى الآخر، وذلك في قصة بدء الخليقة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۞ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۞ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۞ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ [البقرة:30-33].
ومعلومٌ أن الله تعالى قد خلق الجن والإنس لعبادته، ورتَّب على ذلك الثواب والعقاب، واقتضت رحمتُه أنه لا تكليفَ إلا بعد التبليغ وإقامة الحجة عليهم، وذلك عن طريق إرساله ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165].
ولقد قصَّ الله تعالى علينا من أنباء الأنبياء السابقين، وكيف دعوا أقوامهم، وكيف حاوروهم لإزالة شبههم وتعريفهم بدعوة الحق، فقاموا بالدعوة الفردية والجماعية لعظماء القوم فَمَنْ دونهم.
فقصَّ علينا نبأ الخليل عليه السلام مع النمروذ: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 258]، وكذلك نبأه مع قومه؛ فقال تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ۞ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ۞ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ۞ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ۞ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ۞ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ۞ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ ۞ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ۞ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ۞ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ۞ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ۞ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ۞ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ۞ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء:69-82]، وقال تعالى: ﴿وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ۞ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۞ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ۞ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾ [الأنعام: 80-83].
وكذلك قصَّ الله سبحانه علينا ما جرى من نبأ موسى وهارون عليهما السلام مع فرعون، حيث أمر الله نبيه موسى عليه السلام بقوله: ﴿اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ۞ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ۞ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ۞ قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى ۞ قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى ۞ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ۞ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ۞ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ۞ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ۞ قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى﴾ [طه: 42-51]، كما قصَّ الله تعالى قصصَ غيرِهم من الأنبياء ودعوتهم وجدالهم لقومهم.
ولقد حثَّ الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم على حوار الناس عامة، وأهل الكتاب خاصة؛ فمن محاورته للمشركين كما في قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ۞ قُلْ فَللهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ۞ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: 149-150].
ومن محاورته لأهل الكتاب كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ۞ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ۞ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 64-66].
والآيات في الباب كثيرةٌ معلومةٌ، وفي السيرة أمثلةٌ كثيرةٌ منها ما ورد في قصة وفد نجران ومجادلتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ قال ابن القيم في "زاد المعاد" (3/ 558، ط. الرسالة، بيروت): [وَمِنْهَا: جَوَازُ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَمُنَاظَرَتِهِمْ، بَلِ اسْتِحْبَابُ ذَلِكَ، بَلْ وُجُوبُهُ إِذَا ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ مِنْ إِسْلَامِ مَنْ يُرْجَى إِسْلَامُهُ مِنْهُمْ، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَهْرُبُ مِنْ مُجَادَلَتِهِمْ إِلَّا عَاجِزٌ عَنْ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ، فَلْيُوَلِّ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِهِ، وَلْيُخَلِّ بَيْنَ الْمَطِيِّ وَحَادِيهَا، وَالْقَوْسِ وَبَارِيهَا]. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (8/ 95، ط. دار المعرفة): [وفيها جواز مجادلة أهل الكتاب، وقد تجب إذا تعيَّنت مصلحتُه]. اهـ.
وأمر الله جل وعلا أن تكون المجادلة بالحسنى؛ قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، وقال أيضًا: ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [سورة العنكبوت: 46].
ولا شكَّ أن الحوار مع المخالف هو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه أمر بالإيمان، ونهي عن مخالفة أي ركن من أركانه، ودفع شبهات الخصم، وإقامة الحجة عليه، وهذا فرض كفاية، وقد وردت النصوص تأمر به وتحث عليه؛ منها ما ورد عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ». أخرجه مسلم.
قال الإمام النووي في "شرحه على صحيح مسلم" (2/ 23، ط. دار إحياء التراث العربي): [ثُمَّ إِنَّ الأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر فَرْض كِفَايَة إِذَا قَامَ بِهِ بَعْض النَّاس سَقَطَ الْحَرَج عَنْ الْبَاقِينَ، وَإِذَا تَرَكَهُ الْجَمِيع أَثِمَ كُلُّ مَنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ بِلا عُذْرٍ وَلا خَوْف]. اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية في "درء تعارض العقل والنقل" (1/ 51، ط. جامعة محمد بن سعود): [والدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعاء إلى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين، فهذا واجب على الكفاية منهم]. اهـ.
وأما ما ورد من النصوص الشرعية في ذم الجدل؛ فذلك محمولٌ على ما يراد به الباطل، فمن ذلك ما ورد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الجَدَلَ»، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾ [الزخرف: 58]. أخرجه الترمذي، وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
قال العلامة المُناوي في "فيض القدير" (5/ 453، ط. المكتبة التجارية): [أي: ما ضل قوم مهديون كائنين على حال من الأحوال إلا أوتوا الجدل، يعني من ترك سبيل الهدى وركب سنن الضلالة، والمراد لم يمشِ حاله إلا بالجدل؛ أي الخصومة بالباطل. وقال القاضي: المراد التعصب لترويج المذاهب الكاسدة والعقائد الزائفة، لا المناظرة لإظهار الحق واستكشاف الحال واستعلام ما ليس معلومًا عنده أو تعليم غيره ما عنده؛ لأنه فرض كفاية خارج عما نطق به الحديث]. اهـ.
وقال العلامة ابن الأثير في "النهاية" لابن الأثير (1/ 247-248، مادة: ج د ل، ط. المكتبة العلمية: [الجدَل: مُقابَلة الحُجَّة بالحجَّة. والمُجَادَلَةُ: المُناظَرةُ والمخاصَمة. والمراد به في الحَديث الجدل على الباطل وطَلبُ المغالَبة به، فأما الجَدَل لإظْهار الحقِّ فإنَّ ذلك مَحْمودٌ؛ لقوله تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية في "درء تعارض العقل والنقل" (7/ 156): [والمذموم شرعًا ما ذمَّه الله ورسولُه، كالجدل بالباطل، والجدل بغير علم، والجدل في الحقِّ بعد ما تبيَّن، فأما المجادلة الشرعية كالتي ذكرها الله تعالى عن الأنبياء عليهم السلام وأمر بها، مثل قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ [هود: 32]، وقوله: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ [الأنعام: 83]، وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ﴾ [البقرة: 258]، وقوله تعالى: ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: 125]، وأمثال ذلك، فقد يكون واجبًا أو مستحبًّا، وما كان كذلك لم يكن مذمومًا في الشرع]. اهـ.
قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (9/ 28، ط. دار الكتب المصرية، القاهرة): [والجدل في الدين محمودٌ، ولهذا جادل نوحٌ والأنبياءُ عليهم السلام قومَهم حتى يظهر الحق، فمن قَبِلَه أنجح وأفلح، ومن ردَّه خاب وخسر، وأما الجدال لغير الحق حتى يظهر الباطل في صورة الحق فمذموم، وصاحبه في الدارين ملوم]. اهـ.
وبناءً على ما سبق: فإنه لا مانعَ شرعًا من حوار المسلم مع غير المسلم، فهو أمر جائز شرعًا، بل قد يكون فرضَ عينٍ كما سبق بيانه، وأما الجدال المذموم الذي يراد منه إظهار الباطل ودفع الحق فهو غير جائز شرعًا.
والله سبحانه أعلى وأعلم.